إعداد مركز الدراسات الاشتراكية
شهدت هذه الأيام من شهر فبراير عام 1946 واحدة من أعنف المظاهرات في تاريخ مصر الحديث فقد كانت الجماهير آنذاك تموج بروح الثورة وتقطعت الأسباب بينها وبين الحكومة المتخاذلة والمتواطئة مع المحتل البريطاني وكانت الصحف والاجتماعات واللقاءات تحرك مشاعر الغضب والرفض للوضع القائم وتتجه لإكساب الجماهير شعورًا واحدًا وموقفًا واحدًا يتربص بأية بادرة صريحة من الحكومة للمساومة مع المحتل وأتت هذه البادرة بإعلان المذكرة الرسمية المصرية والرد البريطاني عليها.
اللجنة التنفيذية العليا للطلبة:
كانت عطلة رأس السنة للجامعة والمدارس قد انتهت فأصدرت اللجنة التنفيذية العليا للطلبة ـ وكانت بمثابة الاتحاد العالم للطلاب ـ قرارًا بدعوة الطلاب لعقد مؤتمرات عامة يوم 9 فبراير لمناقشة الحالة الحاضرة وهاجمت مبدأ الدفاع المشترك مع بريطانيا الذي يحمل معنى الحماية الاستعمارية وطالبت بعدم الدخول في المفاوضات إلا على أساس الجلاء التام ثم ناشدت الأحزاب كلها بأن تعلن الخطط التي ترى إتباعها إذا رفضت بريطانيا هذا الطلب وسبق صدور هذا البيان مظاهرات وإضرابات في نواح شتى من البلاد، وقد لوحت الحكومة للصحف بالقانون الذي يحظر نشر أخبار صحيحة أو كاذبة عن حوادث الإضراب أو المظاهرات التي يقوم بها الطلبة أو غيرهم وذلك حتى لا تسري عدوى "الهياج العام" ، ولكن عبثًا كانت محاولة الحكومة حيث تزايدت المظاهرات والإضرابات حتى كان يوم 9 فبراير يوم انعقاد المؤتمرات التي دعت لها اللجنة التنفيذية العليا للطلبة.
انعقد المؤتمر العام الأول في جامعة فؤاد الأول ـ جامعة القاهرة حاليًا ـ بالجيزة وشارك فيه كثيرون من طلبة المعاهد والمدارس، وعم الاجتماع شعور بالوحدة وأعلن المؤتمر اعتبار المفاوضة عملاً من أعمال الخيانة يجب وقفه، وطالب بإلغاء معاهدة 1936 واتفاقيتي 1899 الخاصتين بالسودان وضرورة جلاء القوات البريطانية فورًا.
بعد هذا خرجت من الجامعة أضخم مظاهرة عرفت منذ قيام الحرب العالمية الثانية فعبرت شارع الجامعة ثم ميدان الجيزة إلى كوبري عباس وما إن توسطته حتى حاصرها البوليس من الجانبين وفتح الكوبري عليها وبدأ الاعتداء على الطلبة فسقط البعض في النيل وقتل وجرح أكثر من مائتي فرد، وفي ذات اليوم حدثت مظاهرة في المنصورة أصيب فيها 7 شبان و3 جنود واعتقل أربعة كما اعتقل عدد من الشبان في أسوان وفي اليوم التالي عمت المظاهرات القاهرة والأقاليم وفي يوم 11 فبراير صادرت الحكومة الصحف التي كانت تنشر أخبار المظاهرات وحوادث الاشتباك مع البوليس ولم يمنع ذلك الهيئات المختلفة من الاحتجاج على القمع الحكومي للمظاهرات فأعلن اتحاد خريجي الجامعة الاحتجاج واتحاد الأزهر وكلية أصول الدين ولجان الوفد بالأقاليم ومصر الفتاة والفجر الجديد وهي جماعة يسارية ذات صلة قوية بالحركة العمالية في ذلك الوقت.
وفي 12 فبراير قامت جنازة صامتة على روح الشهداء وأقام طلبة الأزهر صلاة الغائب عليهم وحدثت اشتباكات بين الشباب والبوليس أمام كلية الطب لفض مؤتمر عقده الطلبة بالكلية واعتقل عدد يتراوح بين 36 و 50 شابًا وحدث اشتباك آخر في الإسكندرية أصيب فيه متظاهرين كما قامت مظاهرة بالزقازيق قتل فيها إثنان وفي المنصورة قتل واحد وجرح مئات.
وأصدرت الحكومة قرارًا بتعطيل الدراسة ثلاثة أيام وفي الأيام التالية استمر اتساع الأحداث في القاهرة والإسكندرية وبور سعيد وشبين الكوم والزقازيق والمحلة الكبرى وطوخ وأسيوط وعطلت الدراسة في الإسكندرية أسبوعًا وفي 15 فبراير قامت المظاهرات بعد صلاة الجمعة تهتف بالجلاء وبحياة الشهداء وبدأت الجماهير تتجمع من الغورية والموسكي والعتبة وشارع فؤاد وتألفت مظاهرة كبيرة من الشباب والعمال طافت بحي بولاق أبو العلا تهتف بسقوط الاستعمار كما قامت مظاهرة عنيفة في بورسعيد بعد صلاة الجمعة تصدى لها البوليس بوحشية فأصيب عدد كبير من المتظاهرين واعتقل 65 متظاهرًا.
وبدأ يظهر جليًا في المظاهرات أنها لم تعد قاصرة على الطلبة ولا الشباب إنما ضمت جماهير من كافة الفئات وبدأ معظمها في الأحياء الشعبية وفي 16 فبراير أغلقت المحال العامة في الأحياء الوطنية الأحياء التي يسكنها أغلبية من المصريين احتجاجًا على الحوادث وحدادًا على القتلى وقامت مظاهرة في حي الأزهر وكلما مرت بالشوارع يتزايد عددها وتجمعت بعض المظاهرات من الشباب والطلبة أمام القصر الملكي بعابدين تهتف بالجلاء والوحدة مع السودان وسقوط الاستعمار.
اللجنة الوطنية للعمال والطلبة
وخلال هذه الأيام القليلة من شهر فبراير تجذرت حركة الطلاب وأخذت مضمونًا طبقيًا جديدًا كان أوضح تعبيرًا عنه هو تشكيل اللجنة الوطنية للعمال والطلبة يوم 18 و 19 فبراير بعد سلسلة اجتماعات شارك فيها ممثلون عن اللجنة الوطنية للطلاب التي تشكلت في صيف عام 1945 من عناصر نشطة وفدية وماركسية وإخوان مسلمين وممثلون من اللجنة الوطنية العامة لعمال شبرا الخيمة وعمال المطابع ومؤتمر نقابات الشركات والمؤسسات الأهلية واللجنة التحضيرية لمؤتمر نقابات مصر ورابطة العمال المصرية ودعت اللجنة للعمال والطلبة إلى إضراب عام يوم 21 فبراير أطلق عليه اسم "يوم الجلاء" وفي ذلك اليوم تجمع حشد يضم حوالي 100 ألف شخص بينهم 15 ألف عامل من شبرا الخيمة وحدها (كان عمال نسيج شبرا الخيمة بارزين بصفة خاصة في هذه الحركة) واصطدمت قوات الاحتلال البريطاني بهذه الجموع المحتشدة وأسقطت 23 متظاهرًا قتيلاً و 121 جريحًا وفي اليوم التالي دعت اللجنة الوطنية للعمال والطلبة للقيام بإضراب عام ثان في الرابع من مارس أطلقت عليه اسم "يوم الشهداء". ورغم أن مظاهرات 4 مارس كانت محدودة داخل القاهرة إلا أن أماكن أخرى مثل الإسكندرية والمحلة شهدت اشتباكًا بين حشد كبير من المتظاهرين وبين القوات البريطانية سقط فيها 28 متظاهرًا قتيلاً و 342 آخر جريحًا وأغلقت الصحف والمصانع والمتاجر والمدارس أبوابها احتجاجًا في مختلف أرجاء مصر وكان أكبر إضراب في المحلة الكبرى حيث توقف 25 ألف عامل عن العمل في شرك مصر للغزل والنسيج.
مواقف القوى السياسية من الانتفاضة:
لقد كانت انتفاضة فبراير 1946 بما مثلته من صعود في منحنى الصراع الطبقي مرآة كاشفة للمواقف الطبقية لكل القوى السياسية التي فرضت عليها من خلال تحالفاتها وتوازناتها مواقف محددة من الانتفاضة ومن حركة العمال والطلبة أدت في مجملها إلى إجهاض الحركة.
قيادة حزب الوفد كان عليها أن تختار أثناء الانتفاضة بين الحفاظ على الوضع القائم باعتبارها تعتبر عن البرجوازية المصرية وبين تعبئة الجماهير ضد الاستعمار والقصر بما يهدد النظام الاجتماعي وبالطبع اختارت الحالة الأولى وكانت مشاركة بعض العناصر الوفدية النشطة في الانتفاضة مجرد وسيلة لكسب ورقة ضغط لكي تستخدمها قيادة الوفد بعد ذلك وهي تتفاوض مع الاستعمار.
أما جماعة الإخوان المسلمين فقد لعبت في الواقع دورًا تخريبيًا داخل الانتفاضة وكانوا الجناح من الحركة الوطنية الأكثر استعدادًا للتحالف مع الملك ضد الجماهير فعندما اشتعلت الاحتجاجات الطلابية في فبراير أنشأت الجماعة بمساعدة الحكومة اللجنة القومية للطلبة كمحاولة لإيجاد قوى موازية للجنة الوطنية للعمال والطلبة تعمل على تفتيت الحركة وإضعافها وأكثر من ذلك عندما ذهب وفد من اللجنة الوطنية للعمال والطلبة إلى الشيخ حسن البنا أثناء الإعداد للإضراب العام في 21 فبراير طالبًا مساهمة الإخوان في هذا الإعداد رفض حسن البنا على أساس أنه غير مستعد، أما عن المنظمات الماركسية فعلى الرغم من الدور الفاعل الذي لعبته هذه المنظمات في الانتفاضة غلا أن فصلها للقضية الوطنية عن الصراع الطبقي المحتدم أعاق من قدراتها على حشد وتعبئة الجماهير العمالية وتطوير فعاليتها مما أدى إلى إجهاض الحركة في النهاية.
لقد اتخذ يوم 21 فبراير يومًا للتضامن مع الطالب المصري تكريمًا لشهداء أحداث فبراير 1946 أن الخبرة التي تقدمها لنا انتفاضة فبراير نستطيع تمثلها في نضالنا اليوم ضد السياسات الطبقية التي تطبقها الحكومة التي أدت إلى تعظيم البؤس والإفقار عند الغالبية العظمى من المصريين من عمال وطلاب وبرجوازيون صغار فإذا كان المد الثوري قد بلغ ذروته في فبراير 1946 فقد بلغ ذروته مرة أخرى في يناير 1977 ولا سبيل إلا لعودته مرة أخرى في الأيام القادمة في ظل ظروف مشابهة من تواطؤ الحكومة مع الإمبريالية والرأسمالية المحلية وقمعها وتجويعها لجماهير الفقراء من عمال وفلاحين وطلاب، الاختلاف عن 1946 و 1977 يجب أن يكون في تنظيم تلك الذروة من المد الثوري وتلافي الأخطاء التي جعلت لهيب الانتفاضة يخمد بسرعة البرق وذلك هو دور الحزب الثوري... هذا الحزب يجب أن يكون مشبعًا بصورة عميقة بمصالح الانتفاضة وأهدافها ويستطيع أن يعلن عبر نضالات الطبقة العاملة أنها الوحيدة القادرة على زعامة الأمة لحل كل المسائل التي يطرحها التاريخ ومن ضمنها المسألة الوطنية وهذا الحل يأتي خارج النظام البرجوازي ويقوم على أنقاضه. هذه هي المهمة التاريخية المكلف القيام بها في سبيل قيام الثورة الاشتراكية والمجتمع الاشتراكي.